شرح حديث أَبِي هريرةَ رضي اللَّه عنه "في كُلِّ كَبِدٍ رَطْبةٍ أَجْرٌ " وحديث البغي التي سق
للاستماع للمحاضرة: http://khaledalsabt.com/cnt/dros/1767
بسم الله الرحمن الرحيم
رياض الصالحين
شرح حديث أَبِي هريرةَ -رضي الله عنه-: "في كُلِّ كَبِدٍ رَطْبةٍ أَجْرٌ" وحديث البغيِّ التي سقت الكلب فغفر الله لها
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا هو الحديث العاشر من الأحاديث الدالة على كثرة طرق الخير، وهو حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئراً فنزل فيها فشرب، ثم خرج فإذا كلب يلهث...))([1])، ومعنى يلهث أي: أنه يخرج لسانه -يحرك لسانه- من شدة العطش، ومثل هذا لا يكون عادة إلا في الكلب، يقول: ((فوجد بئراً فنزل فيها فشرب، ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثَّرى من العطش))، والثَّرى هو التراب الذي فيه رطوبة، وهو من شدة عطشه يريد أن يبرد حر العطش بأكل هذا التراب الرطب.
((فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلبُ من العطش مثل الذي كان بلغ مني))، ويحتمل أن يكون: لقد بلغ هذا الكلبَ من العطش، يعني: العطش هو الذي بلغ منه، العطش هو الفاعل.
يقول: ((فنزل البئر فملأ خفه ماء، ثم أمسكه بفيه حتى رَقِي فسقى الكلب، فشكر اللهُ له فغفر له))، وفي بعض الروايات: ((أنه سقاه حتى ارتوى -حتى ذهب عنه العطش-، فشكر اللهَ له))، إذا ضُبطت هكذا يكون الذي صدر منه الشكر هو هذا الكلب، والله -عز وجل- يجعل لهذه البهائم من الإدراكات ما لا يخفى، وقد يكون بالحال، والمشهور "فشكر اللهُ له"، أي: أن الله -تبارك وتعالى- شكور لعباده، أي: أنه يجزي بالإحسان إحسانًا، ويوفي عمل العاملين، ويضاعف ذلك، فهذا من شكره -تبارك وتعالى- للعبد.
قالوا: يا رسول الله، إن لنا في البهائم أجرًا؟، معناها: أنهم كانوا يتصورون أن الأجر والخير هو بالإحسان إلى الناس فقال: ((في كل كبد رطبة أجر))، الجواب أعم من السؤال، فيدخل فيه الإنسان وغير الإنسان من الكائنات الحية، الكبد الرطبة يقال ذلك للحي، لأن الإنسان إذا مات جفت أعضاؤه، جفت كبده، وما أشبه ذلك،((في كل كبد رطبة أجر))، فيدخل في ذلك جميع أنواع الحيوان، ويدخل في ذلك الإنسان المسلم والكافر والصالح وغير الصالح، ولذلك قال الله -عز وجل-: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} [البقرة: 272]، فكثير من أهل العلم يقولون: إنها نزلت حينما تلكئوا وتوقفوا وتحرّجوا من دفع الصدقات لغير المسلمين، إما رجاء إسلامهم، أو لأنهم لا يستحقون في نظرهم، فقال الله -عز وجل-: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء}، لا تمنعهم الصدقة من أجل ما هم عليه من الكفر، ولكن الله يهدي من يشاء، {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ}، أنتم تنفقون لأنفسكم، تحسنون لأنفسكم، ولا شك أن بذل المعروف إذا كان ذلك لا يسع الجميع أن بذله للأصلح أولى، وأن بذله للأحوج أولى ممن كانت حاجته دون ذلك، وأن بذله للقريب أولى من بذله للبعيد وهكذا، فهذه مراتب، ولا شك أن القريب مقدم على غيره، ومن كان أكثر حاجة أو أكثر صلاحاً أو نحو ذلك، والمقصود هنا في هذا الحديث أن هذا البذل والإحسان كان لكلب، فهو حيوان بهيم، ثم هو أيضاً معروف بصفات لا تحسن ولا تجمل، صفات مذمومة، فالكلب من أحط الحيوانات، ولهذا قال الشافعي -رحمه الله-:
تموت الأُسْد في الغابات جوعًا*** ولحمُ الضأن يُرمى للكلابِ
يعني: مع خسته وانحطاط مرتبته يرمى له لحم الضأن، والأسْد تموت في الغابات جوعاً، وكما قال الآخر:
قد يُكرَم القردُ إعجاباً بخسَّته*** وقد يهان لفرْطِ النخوةِ الأسَدُ
الأسد إذا علم به الناس أنه قريب أو لاح لهم أو لبعضهم هرعوا يطردونه ويزجرونه غاية الزجر ويريدون قتله، وأما القرد فيعطى الموز ويجتمعون يتفرجون عليه، ويبذلون الأموال من أجل مشاهدته، ويضحكون معه ويقتربون منه، والأسد يصنع به ما سمعتم.
فالمقصود أن هذا الإحسان وقع للكلب، وهو من أحط الحيوانات، ومع ذلك الله -عز وجل- غفر لهذا الإنسان، فكيف إذا كان الإحسان لحيوان أحسن من الكلب وأنفع مثل الجمل والضأن والبقر وما أشبه ذلك من بهيمة الأنعام أو غيرها؟ فكيف إذا كان ذلك للإنسان؟.
فهذا الحديث يرشد إلى معانٍ كثيرة في البذل والإحسان والمعروف، فمع أنه ورد حديث في الأمر بقتل الكلاب، ثم بعد ذلك أيضاً نهاهم -صلى الله عليه وسلم- عن قتلها، وكان المانع من ذلك ما جاء في بعض الأحاديث أنها أمة من الأمم، ((لولا أن الكلاب أمة من الأمم))([2])، ولكنه -صلى الله عليه وسلم- أمر بقتل الكلب العقور، وقال: ((الكلب الأسود شيطان))([3])، وذكر الفواسق التي تقتل في الحل والحرم، وذكر منها الكلب العقور، فهذا قد يكون كلباً عقوراً، وقد يكون أسود بهيمًا، ومع ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر أن هذا الرجل غفر له لمّا قدم هذا المعروف، وهذا المعروف قليل، سقى هذا الكلب من البئر، وهو لم يخسر شيئاً إطلاقاً، لم يشترِ الماء، فأقول: الإنسان لا يحقر من المعروف شيئاً، ولو كان شيئاً يسيرًا، ولو كان هذا المعروف يقدَّم لإنسان في نظرك أنه مقصر، وأنه قد لا يستحق هذا المعروف أو نحو ذلك، فإن الله -عز وجل- يكتب ذلك فلا يضيع، {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ} [البقرة: 272].
في رواية عند البخاري: ((فشكر اللهُ له فغفر له فأدخله الجنة))، وهي قضايا بينها نوع تلازم، إذا غفر الله للإنسان فإنه يدخل الجنة بإذن الله -عز وجل-، فذكر المغفرة، وذكر دخول الجنة في سقي كلب، فكيف بمن سقى أمة؟!، كيف بمن حفر بئراً لقرية لا يجدون الماء مثلاً، أو أجرى نهراً، أو أجرى عيناً، أو نحو ذلك، وضع برادة للمسلمين يشربون منها؟!، ولعلكم قرأتم في ترجمة الحاكم النيسابوري -رحمه الله- صاحب المستدرك أنه أصيب بقروح في وجهه، فتعب وهو يعالجها، فكتب رسالة ودفعها في مجلس شيخه أبي عثمان الصابوني -رحمه الله-، كان المجلس حاشداً في يوم الجمعة، فقُرئت الرسالة، يطلب فيها الدعاء والتأمين أن الله يشفيه، فقرئت الرسالة ودعا له أبو عثمان الصابوني -رحمه الله- وجلس الناس يؤمِّنون، فرجعت امرأة إلى بيتها وهي مهمومة ومشغولة بأمر هذا الإمام العالم -أعني الحاكم النيسابوري -رحمه الله-، فلما نامت رأت النبي -صلى الله عليه وسلم- يأمرها أن تقول لأبي عبد الله الحاكم النيسابوري أن يتصدق بالماء، أن يبذل الماء أو نحو ذلك، فوضع حوضاً عند بيته وألقي فيه الثلج، وجعل الناس يشربون، فبَرِئ.
والرجل الآخر الذي جاء لعبد الله بن المبارك -رحمه الله- يشكو قرحة أصابته فتعب في علاجها، وسأل الأطباء، وما وجد لها شيئاً، فقال له عبد الله بن المبارك -رحمه الله-: احفر بئراً، أو أجرِ عيناً، أو تصدق بالماء، عليك بصدقة الماء، ففعل الرجل فبرئ في أسبوع، وكنت ذكرت هذا في بعض المناسبات تعليقاً على بعض الآيات في رمضان الماضي، فألقى إليّ رجلٌ ورقة وظننت أنها سؤال وما قرأتها، فتبعني عند باب المسجد، وقال: ألقيت إليك ورقة وقع لي فيها مثل هذا، فذكر لي ما وقع له مع أبيه وهم من بلاد الشام، يقول: عندنا مرض نادر، أظنها حمى حوض البحر الأبيض المتوسط، وقال: إن هذه تقع لواحد من مليونين من الناس، فالحاصل أن الرجل يقول: وقع ذلك لأبي، فكان لا يستطيع القيام، طريح الفراش، يقول: فذهبت به إلى الطبيب ثم أرجعته بعد ذلك، وذهبت أشتري الدواء، وكان غالي الثمن، يقول: بينما أنا كذلك متوجه إلى الصيدلية خطر في بالي أن أتصدق بهذا المبلغ، يقول: فذهبت وتصدقت به، يقول: فلما رجعت طرقت الباب فإذا الذي يفتح لي هو أبي، ما به علة، هذه حكاها لي أحد الإخوان في المسجد.
يقول: تصدقت بثمن الدواء، فالصدقة تدفع البلاء، تدفع كثيرًا من الرزايا، والمصائب، ويرفع الله -عز وجل- بها عن الإنسان الأوصاب والآلام، ويدفع عنه الهموم والغموم، ويحصل بها من انشراح الصدر ما لا يقادر قدره، وهذا في كل الإحسان المتعدي، حتى في أقل القليل، الله -عز وجل- لما قال في أدب المجالس: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} [المجادلة: 11]، هنا حذف المتعلق لم يقل: يفسح لكم القبر، ولا قال: يفسح لكم في الآخرة، في الجنة، في الدنيا، والأصل أن ذلك يحمل على العموم، فـ"يفسح الله لكم": يحصل به انشراح الصدر، ويُفسَح للإنسان في عاجل أمره وفي آجله، يُفسح له في الرزق، يفسح له في أمور كثيرة مما يرجوه ويؤمله، وفي الآخرة، وفي قبره أيضاً، "يفسح الله لكم"، وهذا أمر مشاهد، الإنسان الذي يجلس في يوم الجمعة، أو في غير يوم الجمعة، حينما يتضايق الناس، ويميل بكتفه من أجل أن لا يأتي أحد، ويتضايق، ويتخاصم مع الناس إذا جاءوا بجانبه، يضيق صدره جدًّا وينقبض، ويبقى طيلة الوقت في انقباض، وإذا أفسح للناس وجد لذلك أثراً عجيباً من الانشراح، جرِّب هذا ولو مرة في حياتك، جربوا هذا، جرب في الزحام في المسجد الحرام أو في غيره، الناس يتزاحمون ويبحثون عن أماكن، اختر لك واحدًا وقل له: تعال، اجلس، وابتسم بوجهه، وإن حصل تُخرج له طيبًا وتطيبه، وتطيب الناس الذين هم حولك، وانظر كيف يحصل لك من الانشراح، وإن قلت له: لا تجلس، انظر كيف يحصل من الضيق والحرج.
فهذه أمور بسيطة، لكن نحن الذين نضيق على أنفسنا، ونسد أبواب الخير عنا، والجزاء من جنس العمل، فالحاصل أنه أدخله الله الجنة بسبب هذا العمل.
وفي رواية: ((بينما كلب يطيف بركِيَّة...))([4])، والرَّكِيَّة هي البئر، وبعضهم يقول: البئر غير المطوية، قبل أن تُطوى يقال لها ركية، ما بُنيت جوانبها، ((قد كاد يقتله العطش))، كان يدور على البئر ما هو بقادر أن ينزل إلى الماء، ((إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل)) البغي هي المرأة التي تزني بأجرة، ((فنزعت مُوقها))، والمُوق: هو الخف، وبعضهم يقول: هو الذي يكون فوق الخف، يلبس فوق الخف أيضاً ويقال له: الجُرْمُوق،، فالحاصل أن هذه المرأة بغي زانية تزني بأجرة، يعني: مهنتها الزنى، فمن شأنها الزنى، ومع ذلك غفر لها بسقي كلب.
والخلاصة: لا تحقرن من المعروف شيئاً، لا تقل: هذا قليل، أدنى الأشياء قد تبلغ به، وقد يكون سبباً لدخولك الجنة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- ما ذكر هذه الوقائع للتسلية لأصحابه، بل ذكرها للاعتبار من أجل أن الإنسان يمتثل ويطبق.
أسأل الله -عز وجل- أن يعيننا وإياكم على أنفسنا، وأن يدلنا على ما يرضيه، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
----------------------------------------------------------------------------------------
[1]- أخرجه البخاري، كتاب المساقاة، باب فضل سقي الماء، (3/111) رقم: (2363)، ومسلم، كتاب السلام، باب فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها، (4/1761)، رقم: (2244).
[2]- أخرجه الترمذي في سننه، أبواب الاطعمة، باب ما جاء في قتل الكلاب، (4/78)، رقم: (1486)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/940)، رقم: (5321).
[3]- أخرجه ابن حبان في صحيحه، كتاب الصلاة، باب ما يكره للمصلي وما لا يكره، وصححه الألباني في التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان (4/159)، رقم: (2376).
[4]- أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار (4/173)، رقم: (3467)، ومسلم، كتاب السلام، باب فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها (4/1761)، رقم: (2245).